إذا اتخذت قرارك بقراءة السطور التالية، فعليك أن تعلم أن كاتب هذه السطور لا يمتلك صوتا جيدا يؤهله للغناء، كما أنه لم يحلم يوما بذلك، لذا، فإن الأمر لا يتعلق بأحقاد أو ضغائن تجاه الأغنية وصناعها!
هذه السطور لم تكتب من أجل الهجوم على أغنية "بشرة خير" أو صناعها، وهم جميعا لهم كل الاحترام والتقدير، ولكن الأمر يتعدى ذلك.
ولا نضيف جديدا إذا تحدثنا عن أن "بشرة خير" هي العمل الفني الأهم هذه الأيام، وهو ما يظهر من انتشارها بين الجمهور، وتحقيق أرقام مشاهدات جيدة للغاية عبر موقع YouTube.
أعلم أن سؤالا منطقيا يقف على مقدمة فمك الآن، ما هي الأزمة تحديدا؟
بداية علينا أن نتفق في أن نجاح العمل الفني وتحقيقه الانتشار لا علاقة له بجودته الفنية، عشرات الأغنيات الشعبية تخرج يوميا وتحقق النجاح والانتشار بين الجمهور، وعلى سبيل المثال "على رمش عيونها" ورقصة صافينار الشهيرة على أنغامها، وهو ما تزامن معه هجوما حادا على ما قُدم.
نحن نتحدث الآن عن أغنية "وطنية"، وهي بالفعل كذلك حتى وإن أنكر صناعها هذا الأمر، فالأغنية تتحدث عن أمر يتعلق بمستقبل البلاد، كما أنها تدعو المواطنين للمشاركة في عملية انتخابية، بالإضافة لطرحها قبل أيام قليلة من الانتخابات، كل ذلك يلحق بها مصطلح "أغنية وطنية"، بعيدا عما يريد صناعها أن يسموها.
الأغنية الوطنية بالطبع ليست لها ضوابط بعينها، أو شروطا لابد أن تتوافر بها لتصبح أغنية وطنية جيدة، ولكن ما شاهدناه وسمعناه في "بشرة خير" هو أبعد ما يكون عن الأغنية الوطنية شكلا ومضمونا.
فكلمات الأغنية "هشة" بشكل كبير، هل تتذكر أغنية "شبرا" للمغني ريكو؟ أخبرني ما هو الفارق بين الاثنين؟ في كل الأحوال لا يصح أن ننفذ أغنية وطنية مشابهة لأغنية شعبية طرحت قبل 10 سنوات!
هذا بالإضافة إلى أن كلمات الأغنية تبتعد كثيرا عن المنطق، كيف يقول مؤلف "بشرة خير" مخاطبا المواطنين: "خدت إيه مصر بسكوتك"؟ كيف تقول ذلك لشعب فعل ما فعله في 25 يناير و30 يونيو؟ بالتأكيد الأمر ليس منطقيا في كل الأحوال.
قارن بين الأغنيات الوطنية في الماضي وما نستمع إليه الآن، أعلم جيدا أن أغنيات الماضي كانت بها مشكلات كبيرة تتعلق بتمجيد الحاكم والتغني بأمجاده الوهمية "بعضها وليس جميعها لنكون منصفين"، ولكنها في النهاية كانت أعمال مميزة على مستوى الكلمات والألحان.
هل تتذكر أغنية الراحل محمد حمام "يا بيوت السويس"؟ والتي أعاد غناءها محمد منير، الأغنية كانت تتغنى بأبطال السويس ودورهم في الحرب، وقالت كلماتها "يا بيوت السويس يا بيوت مدينتي استشهد تحتك وتعيشي إنتي"، بماذا تحدثت "بشرة خير" في 2014 عن السويس؟.. "متوصوش السوايسة الدنيا هايصة كده كده"!!
نتحدث أيضا عن اللحن، وبعيدا عما أثير حول سرقة لحن "بشرة خير" من أغاني أخرى قديمة، وبعيدا عن الخوض "فنيا" في قيمة اللحن، أود أن أذكر ملحن الأغنية بتصريحات سابقة له.
الملحن أثار ضجيجا كبيرا قبل 3 سنوات إبان ثورة 25 يناير، ووسط هجومه على كل ما يتعلق بالثورة، هاجم أغنية "صوت الحرية" التي طرحت في الأيام الأولى للصورة، وقال إن لحن الأغنية يبتعد كثيرا عن الألحان الوطنية، فماذا عن لحن "بشرة خير"؟ هل نفهم من كل ما سبق أن لحن الأغنية هو "الشكل المثالي" للحن الوطني؟
كليب الأغنية أيضا يحمل العديد من المشكلات، وبدون الخوض فيها، تبقى الإشارة إلى أن المطرب حسين الجسمي اعترف بأن مشاهد الرقص كانت "مبالغ فيها" بعض الشيء، وأنه سيتحدث مع مخرج الأغنية من أجل تعديل الفيديو كليب.
وعلى ذكر حسين الجسمي، أعلم جيدا حبه لمصر، كما أعلم ارتباط الشعب الإماراتي بالمصريين منذ سنوات حكم الشيخ زايد رحمه الله، ولكن تنفيذ 6 أغنيات لمصر أراه يضر الجسمي أكثر ما يفيده، خاصة وأن الأغنيات جميعها ليست على مستوى فني واحد، وهو ربما يعلم ذلك.
وارتباطا بالنقطة السابقة، فإن الفنان الإماراتي الكبير يبدو أنه يعيش "أزمة هوية"، بعدما تعدت الأغنيات التي غناها لمصر وتلك التي غناها لبلاده، كما لا يمكن إغفال غناء الجسمي للعديد من البلاد، ومن بينها قطر على سبيل المثال.
في الإطار ذاته، لا يمكن إغفال عدم عرض الأغنية على مطربين مصريين، وهو تهميش لقيمة المطرب المصري، خاصة وإن العديد من المطربين نفذوا أغنيات وطنية جيدة في السنوات الأخيرة.
أغنية "بشرة خير" بشكل عام تحمل الكثير من المشكلات، وبالإضافة لما سبق، فهي تحمل الكثير من التوجيه للمواطن بتنفيذ شيئا بعينه، وهو أمر لا يصح، ففي الماضي كانت الأغنيات الوطنية تحمس الجنود من أجل الحرب واستعادة البلاد، أعلم جيدا أن الدعوة للمشاركة في الانتخابات أمرا جيدا، ولكنه يبقى في النهاية "شقا سياسيا"، لكل مواطن الحق في تحديد ما يراه صائبا، دون التأثير عليه.
كما أنه لا يمكن إغفال دور الفن في الجانب السياسي والمجتمعي، ولكن ليس من المنطقي أن يغير مواطن رأيا سياسيا بعد الاستماع لأغنية بعينها، وهذا أمر لا علاقة له بدور الفن وقيمته، والحديث هنا يكون عن استغلال للفن من أجل أغراض سياسية.
"بشرة خير" لا تختلف كثيرا عن "تسلم الأيادي"، أغنيات تحمل الوطنية في مسماها، وتبتعد عن ذلك في مضمونها.
انتشار تلك الأغنيات بين المواطنين يعرض قيمة الأغنية الوطنية للخطر، وسنجد مستقبلا أن كل من يريد تنفيذ أغنية لمصر سيستعين بكلمات موجهة ولحن راقص لينشر أغنيته بين المواطنين ليرقصون عليها أمام اللجان الانتخابية.