* د.أحمد مجدي ناقد وعضو هيئة تدريس بقسم الدراما والنقد المسرحي بكلية الآداب جامعة عين شمس
كعادة مسلسل المرايا السوداء، الذي يظهر من أسمه فكرة الديستوبيا وقتامة وقبح الحياة الواقعية في المرآة التي تتشكل من بقع سوداء لا تُظهر الحقيقة على طبيعتها ولا انعكاس الشخصيات بشكل واقعي، ولكن بشكل مأسوي يتشح بالسواد والقبح واللا جدوى، في ظل الاستخدامات الخاطئة للتقنيات الحديثة مثل الواقع الافتراضي الذي من المفترض أن يكون مكانًا رحبًا للرغبات الخيالية، حيث يستطيع الإنسان اختبار أحاسيس كثيرة وعيش حيوات متعددة لا يمكن أن يعيشها في عالمه الواقعي، أو أن يستخدمه الإنسان في الترفيه والتسلية أو حتى العلاج من بعض الأمراض الذهانية والرهابية والتوحد وغيرها من الإمكانيات الكثيرة، خاصة أن الوسائل التقنية قد تطورت في هذا المسلسل ولم تعد نظارة الواقع الافتراضي هي بوابة دخول العوالم الافتراضية، بل أصبح هناك جهازًا صغيرًا في حجم عقلة الأصبع، يتم وضعه على الجانب الأيسر من الرأس وبعدها يتم الانتقال إلى العوالم الافتراضية، وهو ما تحاول تنفيذه بعض الشركات التكنولوجية الآن، مستخدمة بعض الشرائح والعدسات الإلكترونية التي يتم تركيبها مباشرة في العين أو الرأس، حتى يتمكن الشخص من التحكم في الأشياء من حوله بواسطة التفكير فقط، في تجسيد مباشر لمحاولات الإنسان في ادماج التكنولوجيا مع الأعضاء البشرية، وذلك تماشيًا مع الإنعطافة الرقمية التي تدعو إلى أن يتحول الإنسان إلى كائن سايبورجي، هجين بين الآلة والأعضاء البشرية، لكي يتغلب على الأمراض والمشاكل التي يواجهها جسده في الوضع الطبيعي.
تابعوا قناة FilFan.com على الواتساب لمعرفة أحدث أخبار النجوم وجديدهم في السينما والتليفزيون اضغط هنا
ولكن تشاء المرآة السوداء هنا أن لا تعكس تلك الطموحات داخل عوالمها الافتراضية، وإنما تعكس الجزء السادي والبدائي داخل الإنسان وميله لإشباع رغباته في العنف والتدمير، سواء تدمير الذات أو تدمير من حوله، وهو ما يتلخص في ظهور رسم شخصية صانع اللعبة روبرت على هذه الشاكلة، حيث عندما تحين الفرصة له أن يتوسع في عالمه الافتراضي ليقدم لمن حوله امكانيات لا متناهية من المتعة والقدرات، يختار في النسخ المتتابعة له، سواء الحقيقية أو المستنسخة أن يعبر عن أبغض جزء فيه، وهو رغباته السادية والعنيفة في السيطرة على الآخرين، فهو لا يتوان عن جمع حمض نووي من لعاب طفل صغير (ابن دالتون) ظل عالقًا على بقايا الحلوى التي كان يمصها الطفل وتركها على أحد مكاتب الشركة، وذلك حتى يقوم باستنساخ الصغير عدة مرات وقتله أمام صديقه وشريكه للإنتقام منه، بل وأكثر من ذلك يقوم بتحويل أحد موظفيه داخل السفينة إلى وحش فضائي مشوه، ويؤمر فريقه بتركه على أحد الكواكب البعيدة، ولا يتوقف عن محاولة قتل الجميع إلا بوفاته هو شخصيًا داخل اللعبة.
يأتي ذلك التوجه لصناع عمل المرايا السوداء في هذه الحلقة متماشيًا مع رؤيتهم لتداعيات التكنولوجيا إذا وقعت في اليد الخاطئة، بالإضافة إلى انتقاد بعض رؤساء الشركات الكبرى في عالم التكنولوجيا حيث لا يعبأ البعض منه سوى بالمكاسب المالية التي يودون حصدها. ولكن هل هناك وجود لأي نقاط إيجابية للتكنولوجيا في العمل؟ أكثر الأشياء التي تلفت انتباهنا في شخصيات الحلقة أن هناك بعض الشخصيات قد تطورت داخل العالم الافتراضي وأصبحت أكثر نضجًا عن العالم الواقعي، وذلك في تصوير أن الحياة التي قد يعيشها الإنسان في العالم الافتراضي قد تثقل من تجربته الشخصية وتجعله يتصرف بشكل أفضل من شخصيته الحقيقية.
وقد كانت أبرز هذه الشخصيات نانيت كول، فعندما تواجه نفسها الحقيقية، توجه لها سيل لاذع من الانتقادات كونها شخصية ساذجة قد تسببت في أن يستغلها روبرت المنحرف في عالم الواقع، عندما قام بأخذ عينة من حمضها النووي عن طريق كوب قهوة كانت ارتشفته معه وتركته على مكتبه، قبل أن تتحول كول في العالم الافتراضي إلى شخصية محورية في السفينة وتصبح القائدة الثائرة التي تقود طاقمها للخروج من عالم روبرت الافتراضي، وذلك بقدارتها المذهلة في العالم الافتراضي على الايقاع به والتخطيط لعملية ابتزازها، حيث كانت هذه العملية هي طوق النجاة للفريق لمحاولة الخروج من سيطرة روبرت، ونلاحظ هنا أن بنية المسلسل الدرامية تقوم على بطلين، أحدهما يقود الأحداث في النصف الأول من العمل وهو روبرت الذي يضع الجميع في مأزق عندما يحاول استغلالهم داخل اللعبة، واقحامهم داخل سيناريو افتراضي خيالي قائم على لعب أدوار تمثيلية بين قائد سفينة فضائية وطاقمه وذلك من أجل اشباع أغراضه الشخصية في التملك والسيطرة.
بينما تلعب بطولة النصف الثاني من العمل نانيت كول التي تحاول إصلاح تبعات قرارات وجموح روبرت في النصف الأول، وتصبح هي القائد الحقيقي للمركبة الفضائية وتستكمل الحبكة في إطار واقعي بعيد عن لعب الأدوار التمثيلية، حيث تحاول نانيت بالفعل إخراج الجميع من اللعبة من أجل العودة مرة أخرى إلى حياتهم الطبيعية.
وتبادل أدوار البطولة في العمل بين روبرت وكول، يوضح أنهما الشخصيتان المتصارعتان في خضم ذلك العالم الافتراضي الذي يعج بالتناقضات والثنائيات بين؛ الواقع/ عالم اللعبة الافتراضية. الحقيقة التي تمثلها كول والفريق/ اللعبة التمثيلية التي يلعبها روبرت مع الفريق، وذلك رغبة منه في تصدر دور البطولة في المركبة وأن يكون قائدها المغوار، وهي الصورة المتخيلة التي فشل في تحقيقها في عالمه الواقعي، الذي يقضي فيه معظم الوقت وحيدًا دون شريكة أو صديقة، وعندما يجد في كول ضالته حتى تلعب ذلك الدور، فإنها ترفض وتتفجر المواقف والصراعات الدرامية بينهما، داخل العالم الواقعي والعالم الافتراضي.
وتبقى من الأشياء الغريبة في العمل أن يتحول دالتون مدير الشركة واسع النفوذ الذي يستغل كل من حوله، إلى شخص مسالم داخل العالم الافتراضي، وليس ذلك فقط، ولكنه يساعد الفريق في محاربة دالتون في العالم الحقيقي رغم أنه نفس الشخص، لكنه يظهر بسمات مختلفة، تجعل للعالم الافتراضي دورًا محوريًا في تحول شخصيته إلى نسخة أرقى وأنضج.
بينما يظل روبرت في النسخ التي يظهر فيها بنفس منطقه السادي الذي ينم عن عقلية منحرفة ترغب في التحكم في الآخرين، وذلك قد يرجع لعجزه الجنسي الذي ظهر له عدة ملامح قد تكون غير مباشرة داخل العمل، حيث يختار أن يقوم بتشكيل الشخصيات المستنسخة في العالم الافتراضي بدون أعضاء تناسلية حتى لا يمارسون الجنس مع بعضهم في غيابه، وذلك قد يرجع لعدم قدرته على ممارسة الجنس بشكل طبيعي في حياته الواقعية، مما جعله ينزع عنصر الرغبة الجنسية من داخل شخصياته، ويستبعدها في أن تشكل جزءًا من تكوين عالمه المريض، الذي قاده للموت في النهاية. وهذه مفارقة في شخصيته؛ فالسبب الظاهر لعدم إدراج العنصر الجنسي في شخصياته الافتراضية، أن ذلك سيعد إضافة غير أخلاقية سوف تمثل دافعًا لتحويل اللعبة إلى ساحة من الأعمال المنافية للآداب العامة، ولكنه في نفس الوقت يستخدم سلطته داخل العالم الافتراضي للتحرش باللاعبات والسيطرة على الجميع وتعذيبهم وترهيبهم.
في النهاية نستطيع القول أن الحلقة التلفزيونية USS Callister، برغم تعدد مستويات الواقع داخلها، وعمليات الانتقال المتتابعة ما بين العالم الافتراضي والحقيقي، بشكل قد يسبب تشتتًا أحيانًا للمتلقي، بسبب التداخل والتشظي الذي يراه داخل هذه العوالم، وتعددية الرؤى ومنظور السرد، ورسم الشخصيات واختلافها عن تمثلاتها في العالم الافتراضي، بل واستخدام الاحالة إلى أعمال فنية أخرى مثل حرب الكواكب، أو ظهور صخرة صغيرة قد قام دالتون بالرسم عليها، لتبدو مثل وجه إنسان مبتسم، في تشابه مع فيلم Cast away لتوم هانكس عندما كان يصطحب صديقه ويلسن في أرجاء الجزيرة بعد أن تحطمت طائرة شاك نولاند(الشخصية التى يلعبها هانكس في الفيلم) ووجد نفسه وحيدًا على جزيرة نائية، ولم يجد مفرًا حينها من اختراع شخصية خيالية عبارة عن كرة، قام بالرسم عليها لتبدو إنسان يرافقه ويؤنس وحدته.
وكلها عناصرتؤكد التداخل المعقد بين مستويات الواقع والحقيقة، سواء داخل الفيلم أم خارجه، إلا أن الحلقة نجحت بشكل كبير في التركيز على فكرة بسيطة ومحورية وهي؛ كيف يمكن أن يسيء الإنسان استخدام قدراته، ويستخدم اختراعاته لتدمير نفسه والآخرين، بالإضافة إلى أن الحلقة تفضح بعض نماذج رواد أعمال الشركات التكنولوجية في عصر الواقع الافتراضي والذكاء الاصطناعي، وكيف يتعاملون مع العملاء على أنهم مجرد قطع شطرنج يحركونها كيفما يشاءُون داخل فضاء افتراضي من المفترض أن يعطي الناس امكانيات أكبر لاستكشاف الحياة وخوض العديد من التجارب الغامرة المختلفة، لكنه يتحول إلى فضاء ديستوبي ينخر في جدار الواقع ويتغذى على شخصياته الحقيقية حتى الموت.
اقرأ أيضا:
إيقاف حمو بيكا عن العمل واستدعاؤه للتحقيق في نقابة الموسيقيين
ملك أحمد زاهر توجه رسالة مؤثرة لشقيقتها ليلى بعد زواجها: وحشتيني أوي من دلوقتي
فيديو – ريم مصطفى: دروس الرقص البلدي بتفكرني بأنوثتي ... وعلم الأرقام وراني عظمة ربنا
لا يفوتك: في الفن يكشف حقيقة وليد فواز مبدع أدوار الشر
حمل آبلكيشن FilFan ... و(عيش وسط النجوم)
جوجل بلاي| https://bit.ly/36husBt
آب ستور|https://apple.co/3sZI7oJ
هواوي آب جاليري| https://bit.ly/3LRWFz5